من الأزقة التي لا تصلها الكاميرات، خرج صوته مبحوحا، مؤثرا، صادقا، ليمنح الشارع لغة جديدة وأغنية غير معتادة لا تلبس قفازات ولا تنتعل أحذية بل تمشي حافية على إسفلت الشوارع. ورغم أن الجسد قد ترجّل، إلا أن الأغنية باقية... تُغنّى كلما مرّ أحدهم من هناك، حيث وُلد الحلم رغم ضيق الأفق واختناق المنام.
في ركن صاخب من الأحياء الشعبية حيث تختلط الأصوات والخطى برائحة الخبز، ويكتب الضوء يومه فوق جدران متشققة، سيظل صدى "حوماني" يتردد كما لو أنّ أحمد العبيدي، الشهير بـ"كافون"، لم يرحل قط، بل انزاح فقط إلى طبقة أخرى من الوجود... ليغنّي من هناك وجع الشارع، فرح الحيّ، أحلام العابرين.
غادرنا كافون يوم السبت 10 ماي 2025 عن عمر ناهز الثالثة والأربعين، بعد صراع طويل مع المرض، لكن صوته لم يغادر. كان أشبه بشعلة تمشي في العتمة، لا تطلب شيئا سوى أن تُبقي القلب نابضا، والذاكرة حيّة. لم يكن كافون مغنيا فقط، بل حاملا لمرآة واجهت بها الأحياء المنسية صورتها، ولصدى صادق التقط أنينها حين تجاهله الجميع.
ولد من رحم الهامش، وعاش فيه دون تبرير، دون تزويق، دون بحث عن مَخرج. لم يكن الراب بالنسبة له مجرّد صرخة، بل كان فعلا سرديا، حياة تُروى على وقع إيقاع المدينة، على زفير متقطع يشبه تعب الأمهات في آخر الليل. مزج كافون الراب بالريڨي كما لو أنه يركّب معادلة وجودية، وأضاف نكهة تونسية لم يصنعها استوديو بل صنعها شارع. لم يكن فنانا يلاحق الأضواء، بل ظلّ وفيا للظلّ... لأن في الظلّ من يشبهونه..
من "حوماني إلى "معليش" إلى "شق شق"، ومن "شبيني وبينك" إلى آلاف الكلمات التي لم تُكتب بعد، شقّ كافون لنفسه طريقا خاصا قد لا يستهوينا السير فيه ولكننا سنقف تقديرا لشغف الرحلة واختلافها. لم يكن كافون شاعرا او مطربا أو ملحنا بالمعنى التقليدي، لكنه كان يعرف كيف يصنع من نبض الناس بيتا، ومن حزنهم اغنية ومن الحيّ فلسفة كاملة.
وحين جرّب التمثيل، لم يكن يؤدي دورا... بل كان يتقدّم بوجهه الصادق وصوته الخشن كالحياة، كما لو أنه يعترف أمام الكاميرا بأن الحياة ليست مشهدا يُعاد، بل ومضة، علينا أن نكون فيها كما نحن.
في "رقوج الكنز"، آخر ظهور له على شاشة الدراما، بدا كما لو أنه يسلّم الكنز الأخير: ابتسامة منهكة، ونظرة تقول "أنا هنا... حتى حين أغيب".
سنواته الأخيرة كانت ملأى بالصمت. صمت ناطق، لا يشبه الانسحاب، بل يشبه حكمة من قرأ الصفحة الأخيرة واكتفى. لم يصرخ، لم يشكُ، بل قاوم كما يقاوم الشجعان: بهدوء. حين بتروا ساقه، لم يبكِ، بل ابتسم، كأنّه يقول إن الأرواح الكبيرة لا تُقاس بطول الجسد، بل بعمق الأثر.
كافون لم يمت. بل تحوّل. انتقل من الجسد إلى الرمزية، من الحضور إلى الأثر، من الأغنية إلى الحالة.
بعد الآن، لن تراه في شارعك، لكنك ستسمعه في الأغنية التي تعود إليها حين تضيق الدنيا. ستراه في نظرة شاب يحلم رغم كل شيء، في كلمات الراب حين تكتب مصيرها. في قلب لا ينسى أنّ الفن، حين يكون صادقا، لا يُنسى.
وداعا كافون ، يا من جعلت من الوجع أنشودة ، ومن الصمت صوتا... ومن الغياب حضورا لا يُمحى.
ليلى بورقعة