إن بلادا لا تُولي عنصر الثقافة أولوية مُلحة هي بلاد عقيمة عرجاء . يَضيع تاريخها هباءً تذروه الرياح إلى وِجهات مجهولة ، تنتهي لحظتها قبل موعد بدايتها .
و الثقافة هنا بمعنى الهويّة ، بمعنى الخطوط العريضة لأساسات وجودنا ، هذا الوجود المرتبط بتفاصيل الانسان من حيث انتماءه و اهتماماته و مساعيه .. ممّا يخلق التنوّع و الاختلاف بين سائر المجتمعات في مرحلة أولى و من ثم في مرحلة ثانية ما يسمى بالتلاقح بين الحضارات و انفتاح الثقافات على بعضها البعض و ثمرة هذه العملية الحياتية الممتدة بامتداد التاريخ البشري تتمثل في جنين " الفِكر " ، فإذا كان الفكر أعظم اختراع معنوي حققه الانسان فإن أعظم اختراع مادي بالضرورة يكون " الكِتاب " .
الكِتاب ، أم الاختراعات أو النواة الأولية و الخلية الحية الأولى لتوثيق ما ظفر به العقل البشري من نِتاج و بذلك فإنه يمكن اعتبار الكتاب خيرَ ذاكرة إنسانية لما تُوحي به عجلة التاريخ ، ذاكرة لا تَنسى و لا تُصاب بالزهايمر .. و خيرَ محمل مُستشرف للمستقبل بواسطة ما تجود به قريحة الكُتّاب و المفكرين و الانسان عموما.
مجموعة من الأوراق من التي تتيحها نِعم الطبيعة كمادة أولية تُجَهَّز مجتمعة و متطابقة و يحفظها ورق سميك في مأمن من التلف ، الكتاب هو هذه البساطة كلها في ظاهره .. هو هذه العظمة كلها في باطنه ، بوّابة إلى أبعاد و عوالم أخرى بأزمنة مختلفة فحين تكونون قاب قوسين أو أدنى من فتح كتاب جهّزوا أنفسكم جيدا .. لخوض مغامرة.
من المتداول حسب دراسات و إحصائيات مراكز البحوث المتخصصة أن نِسب المطالعة في العالم العربي متدنية إلى أبعد الحدود مثلها مثل نِسب انتاجية الكتب ذلك أنّه قد كشف سبر آراء قام به معهد " إيمرود " اعتمد فيه على تونس نموذجا بأن نسبة 49 بالمائة من التونسيين لا يقرؤون الكتب تماما كما أن 83 بالمائة من الشعب التونسي لم يشتروا كتابا خلال السنة المنقضية .
و تزامن توقيت سبر الآراء مع فعاليات الدورة الثالثة و الثلاثين لمعرض تونس الدولي للكتاب التي اُعتبرت دورة متميزة على مقاييس عِدّة من شأنها أن تفنّد أو على الأقل لا تتوافق مع نسب سبر الآراء بغض النظر عن بعض التفاصيل التي تتراوح في مدى سلبيتها تجاه الدورة.
حيث و بشهادة الجميع تقريبا ، كانت دورة هذه السنة ناجحة على المستوى التنظيمي أوّلا أكان ذلك في علاقة غير مباشرة كمظاهر الانتصاب الفوضوي أمام فضاء المعرض التي ما فتئت تضر بصورة هذا العُرس الثقافي في دورات السنوات الماضية أو كان ذلك في علاقة مباشرة بالتنظيم الداخلي الذي يُعنى بمساحات دور النشر و الفضاءات المخصصة للورشات الجانبية كرواق الابداع و يُعتبر هذا المجهود استحقاقا للمؤسسة المعنية بشأن معرض الكتاب و لمدير دورتها عميد كلية الاداب بمنوبة الدكتور " شكري المبخوت "
و ثانيا على مستوى المحتوى ، فَبِخِلاف تعدد دول دور النشر المشاركة و على رأسها لبنان كضيف شرف فقد شهد معرض الكتاب انتظام العديد من الملتقيات الفكرية و الأماسيات الشعرية و العروض الفولكلورية و غيرها ..
اما الميزة الأبرز و التي كما أسلفنا لا تتوافق مع نسب سبر الآراء السلبية هي الإقبال الكثيف و الحضور المحترم جدا الذي سجلته كافة أيام الدورة و الصدى الذي لقيه معرض الكتاب ضمن حديث الرأي العام على غير عادته هذا عموما أما بصفة خاصة و التي تُعدّ سابقة و نقطة ضوء مبشّرة هي رواج كتاب تونسي صدر حديثا تحت عنوان " عائد من الرقة ، هارب من الدولة الإسلامية " للكاتب الصحفي هادي يحمد و نفاذ جميع النسخ في مدة قياسية في انتظار توفير طبعة ثانية للكتاب.
لكن و من جانب آخر تبقى دائما نفس الإشكالية فيما يخص الكتب حيث أن غلاء الأسعار كان مصاحبا لها و هذا يعود لعوامل كثيرة منها أنّ دور النشر ذاتها تستأجر الفضاءات المخصصة لها لعرض الكتب حسب مساحتها و تموقعها و إلى غير ذلك و أيضا تمثل تكلفة الشحن و النقل خاصة لدور نشر أجنبية عاملا أساسيا إضافة إلى أن أغلب دور النشر و التونسية منها هي دور تنضوي تحت لواء الخواص كشركات ربحية مما يثير الجدل حول سلعنة المعرفة و فرصة لطرح تساؤلات حول دعم الدولة للكتاب عموما.
امير الوسلاتي